سورة الأحزاب - تفسير تفسير القرطبي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الأحزاب)


        


{ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (5)}
فيه ست مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ} نزلت في زيد بن حارثة على ما تقدم بيانه.
وفي قول ابن عمر: ما كنا ندعو زيد بن حارثة إلا زيد بن محمد دليل على أن التبني كان معمولا به في الجاهلية والإسلام يتوارث به ويتناصر إلى أن نسخ الله ذلك بقوله: {ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ} أي أعدل. فرفع الله حكم التبني ومنع من إطلاق لفظه وأرشد بقوله إلى أن الأولى والأعدل أن ينسب الرجل إلى أبيه نسبا فيقال: كان الرجل في الجاهلية إذا أعجبه من الرجل جلده وظرفه ضمه إلى نفسه وجعل له نصيب الذكر من أولاده من ميراثه وكان ينسب إليه فيقال فلان بن فلان.
وقال النحاس: هذه الآية ناسخة لما كانوا عليه من التبني وهو من نسخ السنة بالقرآن فأمر أن يدعوا من دعوا إلى أبيه المعروف فإن لم يكن له أب معروف نسبوه إلى ولائه فإن لم يكن له ولاء معروف قال له يا أخي يعني في الدين قال الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}.
الثانية: لو نسبه إنسان إلى أبيه من التبني فإن كان على جهة الخطأ وهو أن يسبق لسانه إلى ذلك من غير قصد فلا إثم ولا مؤاخذة لقوله تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ}. وكذلك لو دعوت رجلا إلى غير أبيه وأنت ترى أنه أبوه فليس عليك بأس قاله قتادة. ولا يجرى هذا المجرى ما غلب عليه اسم التبني كالحال في المقداد بن عمرو فإنه كان غلب عليه نسب التبني فلا يكاد يعرف إلا بالمقداد بن الأسود فإن الأسود بن عبد يغوث كان قد تبناه في الجاهلية وعرف به. فلما نزلت الآية قال المقداد: أنا ابن عمرو ومع ذلك فبقى الإطلاق عليه. ولم يسمع فيمن مضى من عصى مطلق ذلك عليه وإن كان متعمدا. وكذلك سالم مولى أبي حذيفة كان يدعى لابي حذيفة. وغير هؤلاء ممن تبنى وانتسب لغير أبيه وشهر بذلك وغلب عليه. وذلك بخلاف الحال في زيد بن حارثة فإنه لا يجوز أن يقال فيه زيد بن محمد فإن قاله أحد متعمدا عصى لقوله تعالى: {وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} أي فعليكم الجناح. والله أعلم. ولذلك قال بعده: {وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} أي {غَفُوراً} للعمد و{رَحِيماً} برفع إثم الخطأ.
الثالثة: وقد قيل: إن قول الله تبارك وتعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ} مجمل أي وليس عليكم جناح في شيء أخطأتم وكانت فتيا عطاء وكثير من العلماء. على هذا إذا حلف رجل ألا يفارق غريمه حتى يستوفى منه حقه فأخذ منه ما يرى أنه جيد من دنانير فوجدها زيوفا أنه لا شيء عليه. وكذلك عنده إذا حلف ألا يسلم على فلان فسلم عليه وهو لا يعرفه أنه لا يحنث لأنه لم يتعمد ذلك. و{ما} في موضع خفض ردا على {ما} التي مع {أخطأتم}. ويجوز أن تكون في موضع رفع على إضمار مبتدإ والتقدير: ولكن الذي تؤاخذون به ما تعمدت قلوبكم. قال قتادة وغيره: من نسب رجلا إلى غير أبيه وهو يرى أنه أبوه خطأ فذلك من الذي رفع الله فيه الجناح.
وقيل: هو أن يقول له في المخاطبة: يا بني على غير تبن.
الرابعة: قوله تعالى: {ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ} {بِأَفْواهِكُمْ} تأكيد لبطلان القول، أي أنه قول لا حقيقة له في الوجود، إنما هو قول لساني فقط. وهذا كما تقول: أنا أمشى إليك على قدم، فإنما تريد بذلك المبرة. وهذا كثير. وقد تقدم هذا المعنى في غير موضع. {وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ} {الْحَقَّ} نعت لمصدر محذوف، أي يقول القول الحق. و{يَهْدِي} معناه يبين، فهو يتعدى بغير حرف جر.
الخامسة: الأدعياء جمع الدعي وهو الذي يدعى ابنا لغير أبيه أو يدعى غير أبيه والمصدر الدعوة بالكسر فأمر تعالى بدعاء الأدعياء إلى آبائهم للصلب فمن جهل ذلك فيه ولم تشتهر أنسابهم كان مولى وأخا في الدين. وذكر الطبري أن أبا بكر قرأ هذه الآية وقال: أنا ممن لا يعرف أبوه فأنا أخوكم في الدين ومولاكم. قال الراوي عنه: ولو علم- والله- أن أباه حمار لانتمى إليه. ورجال الحديث يقولون في أبي بكرة: نفيع بن الحارث.
السادسة: روى الصحيح عن سعد بن أبي وقاص وأبي بكر كلاهما قال: سمعته أذناي ووعاه قلبي محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «من ادعى إلى غير أبيه وهو يعلم أنه غير أبيه فالجنة عليه حرام».
وفي حديث أبي ذر أنه سمع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «ليس من رجل ادعى لغير أبيه وهو يعلمه إلا كفر».


{النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ إِلاَّ أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً (6)}
فيه تسع مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} هذه الآية أزال الله تعالى بها أحكاما كانت في صدر الإسلام، منها: أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان لا يصلي على ميت عليه دين، فلما فتح الله عليه الفتوح قال: «أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم فمن توفي وعليه دين فعلي قضاؤه ومن ترك مالا فلورثته» أخرجه الصحيحان. وفيهما أيضا: «فأيكم ترك دينا أو ضياعا فأنا مولاه». قال ابن العربي: فانقلبت الآن الحال بالذنوب، فإن تركوا مالا ضويق العصبة فيه، وإن تركوا ضياعا أسلموا إليه، فهذا تفسير الولاية المذكورة في هذه الآية بتفسير النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتنبيهه، ولا عطر بعد عروس. قال ابن عطية: وقال بعض العلماء العارفين هو أولى بهم من أنفسهم، لأن أنفسهم تدعوهم إلى الهلاك، وهو يدعوهم إلى النجاة. قال ابن عطية: ويؤيد هذا قوله عليه الصلاة والسلام: «أنا آخذ بحجزكم عن النار وأنتم تقتحمون فيها تقحم الفراش». قلت: هذا قول حسن في معنى الآية وتفسيرها، والحديث الذي ذكر أخرجه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إنما مثلي ومثل أمتي كمثل رجل استوقد نارا فجعلت الدواب والفراش يقعن فيه وأنا آخذ بحجزكم وأنتم تقحمون فيه». وعن جابر مثله، وقال: «وأنتم تفلتون من يدي». قال العلماء الحجزة للسراويل، والمعقد للإزار، فإذا أراد الرجل إمساك من يخاف سقوطه أخذ بذلك الموضع منه. وهذا مثل لاجتهاد نبينا عليه الصلاة والسلام في نجاتنا، وحرصه على تخلصنا من الهلكات التي بين أيدينا، فهو أولى بنا من أنفسنا، ولجهلنا بقدر ذلك وغلبة شهواتنا علينا وظفر عدونا اللعين بناصرنا أحقر من الفراش وأذل من الفراش، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم! وقيل: أولى بهم أي أنه إذا أمر بشيء ودعت النفس إلى غيره كان أمر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أولى. وقيل أولى بهم أي هو أولى بأن يحكم على المؤمنين فينفذ حكمه في أنفسهم، أي فيما يحكمون به لأنفسهم مما يخالف حكمه.
الثانية: قال بعض أهل العلم: يجب على الامام أن يقضي من بيت المال دين الفقراء اقتداء بالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإنه قد صرح بوجوب ذلك عليه حيث قال: «فعلي قضاؤه». والضياع بفتح الضاد مصدر ضاع، ثم جعل اسما لكل ما هو بصدد أن يضيع من عيال وبنين لا كافل لهم، ومال لا قيم له. وسميت الأرض ضيعة لأنها معرضة للضياع وتجمع ضياعا بكسر الضاد.
الثالثة: قوله تعالى: {وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ} شرف الله تعالى أزواج نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأن جعلهن أمهات المؤمنين، أي في وجوب التعظيم والمبرة والإجلال وحرمة النكاح على الرجال، وحجبهن رضي الله تعالى عنهن بخلاف الأمهات.
وقيل: لما كانت شفقتهن عليهم كشفقة الأمهات أنزلن منزلة الأمهات، ثم هذه الأمومة لا توجب ميراثا كأمومة التبني. وجاز تزويج بناتهن، ولا يجعلن أخوات للناس. وسيأتي عدد أزواج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في آية التخيير إن شاء الله تعالى. واختلف الناس هل هن أمهات الرجال والنساء أم أمهات الرجال خاصة، على قو لين: فروى الشعبي عن مسروق عن عائشة رضي الله عنها أن امرأة قالت لها: يا أمة، فقالت لها: لست لك بأم، إنما أنا أم رجالكم. قال ابن العربي: وهو الصحيح. قلت: لا فائدة في اختصاص الحصر في الإباحة للرجال دون النساء، والذي يظهر لي أنهن أمهات الرجال والنساء، تعظيما لحقهن على الرجال والنساء. يدل عليه صدر الآية: {النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ}، وهذا يشمل الرجال والنساء ضرورة. ويدل على ذلك حديث أبي هريرة وجابر، فيكون قوله: {وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ} عائدا إلى الجميع. ثم إن في مصحف أبي بن كعب {وأزواجه أمهاتهم وهو أب لهم}. وقرأ ابن عباس: {من أنفسهم وهو أب لهم وأزواجه أُمَّهاتُهُمْ}. وهذا كله يوهن ما رواه مسروق إن صح من جهة الترجيح، وإن لم يصح فيسقط الاستدلال به في التخصيص، وبقينا على الأصل الذي هو العموم الذي يسبق إلى الفهوم. والله أعلم.
الرابعة: قوله تعالى: {وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ} قيل: إنه أراد بالمؤمنين الأنصار، وبالمهاجرين قريشا. وفية قولان:
أحدهما: أنه ناسخ للتوارث بالهجرة. حكى سعيد عن قتادة قال: كان نزل في سورة الأنفال {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا} [الأنفال: 72] فتوارث المسلمون بالهجرة، فكان لا يرث الاعرابي المسلم من قريبه المسلم المهاجر شيئا حتى يهاجر، ثم نسخ ذلك في هذه السورة بقوله: {وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ}.
الثاني: أن ذلك ناسخ للتوارث بالحلف والمؤاخاة في الدين، روى هشام بن عروة عن أبيه عن الزبير: {وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ} وذلك أنا معشر قريش لما قدمنا المدينة قدمنا ولا أموال لنا، فوجدنا الأنصار نعم الاخوان فآخيناهم فأورثونا وأورثناهم، فآخى أبو بكر خارجة بن زيد، وآخيت أنا كعب بن مالك، فجئت فوجدت السلاح قد أثقله، فوالله لقد مات عن الدنيا ما ورثه غيري، حتى أنزل الله تعالى هذه الآية فرجعنا إلى موارثنا. وثبت عن عروة أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آخى بين الزبير وبين كعب بن مالك، فارتث كعب يوم أحد فجاء الزبير يقوده بزمام راحلته، فلو مات يومئذ كعب عن الضح والريح لورثه الزبير، فأنزل الله تعالى: {وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ}. فبين الله تعالى أن القرابة أولى من الحلف، فتركت الوراثة بالحلف وورثوا بالقرابة. وقد مضى في الأنفال الكلام في توريث ذوي الأرحام. وقوله: {فِي كِتابِ اللَّهِ} يحتمل أن يريد القرآن، ويحتمل أن يريد اللوح المحفوظ الذي قضى فيه أحوال خلقه. و{من المؤمنين} متعلق بـ {أولى} لا بقوله: {وَأُولُوا الْأَرْحامِ} بالإجماع، لان ذلك كان يوجب تخصيصا ببعض المؤمنين، ولا خلاف في عمومها، وهذا حل إشكالها، قاله ابن العربي. النحاس: {وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ} يجوز أن يتعلق {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} بـ {أُولُوا} فيكون التقدير: وأولو الأرحام من المؤمنين والمهاجرين. ويجوز أن يكون المعنى أولى من المؤمنين.
وقال المهدوي: وقيل إن معناه: وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله إلا ما يجوز لأزواج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يدعين أمهات المؤمنين. والله تعالى أعلم.
الخامسة: واختلف في كونهن كالأمهات في المحرم وإباحة النظر، على وجهين: أحدهما- هن محرم، لا يحرم النظر إليهن.
الثاني: أن النظر إليهن محرم، لان تحريم نكاحهن إنما كان حفظا لحق رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيهن، وكان من حفظ حقه تحريم النظر إليهن، ولان عائشة رضي الله عنها كانت إذا أرادت دخول رجل عليها أمرت أختها أسماء أن ترضعه ليصير أبنا لأختها من الرضاعة، فيصير محرما يستبيح النظر. وأما اللاتي طلقهن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حياته فقد اختلف في ثبوت هذه الحرمة لهن على ثلاثة أوجه: أحدها: ثبتت لهن هذه الحرمة تغليبا لحرمة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
الثاني- لا يثبت لهن ذلك، بل هن كسائر النساء، لان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد أثبت عصمتهن، وقال: «أزواجي في الدنيا هن أزواجي في الآخرة».
الثالث- من دخل بها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منهن ثبتت حرمتها وحرم نكاحها وإن طلقها، حفظا لحرمته وحراسة لخلوته. ومن لم يدخل بها لم تثبت لها هذه الحرمة، وقد هم عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه برجم امرأة فارقها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فتزوجت فقالت: لم هذا! وما ضرب علي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حجابا ولا سميت أم المؤمنين، فكف عنها عمر رضي الله عنه.
السادسة: قال قوم: لا يجوز أن يسمى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أبا لقوله تعالى: {ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ} [الأحزاب: 40]. ولكن يقال: مثل الأب للمؤمنين، كما قال: «إنما أنا لكم بمنزلة الوالد أعلمكم...» الحديث. خرجه أبو داود. والصحيح أنه يجوز أن يقال: إنه أب للمؤمنين، أي في الحرمة، وقوله تعالى: {ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ} [الأحزاب: 40] أي في النسب. وسيأتي. وقرأ ابن عباس: {من أنفسهم وهو أب لهم وأزواجه}. وسمع عمر هذه القراءة فأنكرها وقال: حكمها يا غلام؟ فقال: إنها في مصحف أبي، فذهب إليه فسأله فقال له أبي: إنه كان يلهيني القرآن ويلهيك الصفق بالأسواق؟ وأغلظ لعمر. وقد قيل في قول لوط عليه السلام {هؤلاء بناتي} [الحجر: 71]: إنما أراد المؤمنات، أي تزوجوهن. وقد تقدم.
السابعة: قال قوم: لا يقال بناته أخوات المؤمنين، ولا أخوالهن أخوال المؤمنين وخالاتهم. قال الشافعي رضي الله عنه: تزوج الزبير أسماء بنت أبي بكر الصديق وهي أخت عائشة، ولم يقل هي خالة المؤمنين. وأطلق قوم هذا وقالوا: معاوية خال المؤمنين، يعني في الحرمة لا في النسب.
الثامنة: قوله تعالى: {إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً} يريد الإحسان في الحياة، والوصية عند الموت، أي إن ذلك جائز، قاله قتادة والحسن وعطاء.
وقال محمد ابن الحنفية، نزلت في إجازة الوصية لليهودي والنصراني، أي يفعل هذا مع الولي والقريب وإن كان كافرا، فالمشرك ولي في النسب لا في الدين فيوصي له بوصية. واختلف العلماء هل يجعل الكافر وصيا، فجوز بعض ومنع بعض. ورد النظر إلى السلطان في ذلك بعض، منهم مالك رحمه الله تعالى. وذهب مجاهد وابن زيد والرماني إلى أن المعنى: إلى أوليائكم من المؤمنين. ولفظ الآية يعضد هذا المذهب، وتعميم الولي أيضا حسن. وولاية النسب لا تدفع الكافر، وإنما تدفع أن يلقى إليه بالمودة كولي الإسلام.
التاسعة: قوله تعالى: {كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً} {الكتاب} يحتمل الوجهين المذكورين المتقدمين في {كِتابِ اللَّهِ}. و{مَسْطُوراً} من قولك سطرت الكتاب إذا أثبته أسطارا.
وقال قتادة: أي مكتوبا عند الله عز وجل ألا يرث كافر مسلما. قال قتادة: وفي بعض القراءة {كان ذلك عند الله مكتوبا}.
وقال القرظي: كان ذلك في التوراة.


{وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (7)}
قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ} أي عهدهم على الوفاء بما حملوا، وأن يبشر بعضهم ببعض، ويصدق بعضهم بعضا، أي كان مسطورا حين كتب الله ما هو كائن، وحين أخذ الله تعالى المواثيق من الأنبياء. {وَمِنْكَ} يا محمد {وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} وإنما خص هؤلاء الخمسة وإن دخلوا في زمرة النبيين تفضيلا لهم.
وقيل: لأنهم أصحاب الشرائع والكتب، وأولو العزم من الرسل وأئمة الأمم. ويحتمل أن يكون هذا تعظيما في قطع الولاية بين المسلمين والكافرين، أي هذا مما لم تختلف فيه الشرائع، أي شرائع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. أي كان في ابتداء الإسلام توارث بالهجرة، والهجرة سبب متأكد في الديانة، ثم توارثوا بالقرابة مع الايمان وهو سبب وكيد، فأما التوارث بين مؤمن وكافر فلم يكن في دين أحد من الأنبياء الذين أخذ عليهم المواثيق، فلا تداهنوا في الدين ولا تمالئوا الكفار. ونظيره: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً} إلى قوله: {وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشورى: 13]. ومن ترك التفرق في الدين ترك موالاة الكفار.
وقيل: أي النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم كان ذلك في الكتاب مسطورا ومأخوذا به المواثيق من الأنبياء. {وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً} أي عهدا وثيقا عظيما على الوفاء بما التزموا من تبليغ الرسالة، وأن يصدق بعضهم بعضا. والميثاق هو اليمين بالله تعالى، فالميثاق الثاني تأكيد للميثاق الأول باليمين.
وقيل: الأول هو الإقرار بالله تعالى، والثاني في أمر النبوة. ونظير هذا قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي} [آل عمران: 81] الآية. أي أخذ عليهم أن يعلنوا أن محمدا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ويعلن محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن لا نبي بعده. وقدم محمدا في الذكر لما روى قتادة عن الحسن عن أبي هريرة أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سئل عن قوله تعالى: {وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح} قال: «كنت أولهم في الخلق وآخرهم في البعث».
وقال مجاهد: هذا في ظهر آدم عليه الصلاة والسلام.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8